مجازر اللحوم في مصر: إدارة المخلفات تتسبب بكوارث بيئية
محمد أبو زيد
مـجـازر الـلـحـوم في مـصـر: إدارة المخلفات تتسبب بكوارث بـيـئـيـة
22/10/2024
مـحـمـد مـجـدي أبـو زيـد
عام 1990، عاد أحمد زقزوق، أحد سكان منطقة مؤسسة الزكاة في حي المرج بالقاهرة من عمله خارج مصر، ليفاجأ بمعاناة زوجته من ضيق في التنفس. ومع زيارة الطبيب، تبيّن أنها تعاني من ربوٍ مزمن، نصحهما الطبيب بمغادرة مكان سكنهما فورًا. بدوره، يعاني إبراهيم شرف الدين، أحد سكان المنطقة نفسها من الروائح الكريهة والقمامة الملقاة بعشوائية.
تُعَبِر شهادتا أحمد وإبراهيم عن غالبية السكان الذين يعانون من تلوث تسببه مياه "المصرف البلبيسي" أو ما يعرف بالـ "رشاح البلبيسي"، الممتد على طول 9 كم، ابتداءً من منطقة مؤسسة الزكاة بالمرج بمحافظة القاهرة وصولًا إلى منطقة القلج في محافظة القليوبية (شمال القاهرة). ويعدُّ هذا المصرف مصدرًا كبيرًا للتلوث بما يحتويه من قمامة متراكمة على الجانبين، ويسببه من انبعاث روائح كريهة وانتشارٍ للحشرات السامة.
يقع الرشاح قرب المدارس وفي الأحياء السكنية، وفي فصل الصيف تتفاقم خطورة المصرف مع ارتفاع درجات الحرارة وانتشار الأمراض وانتقال العدوى نتيجة تلوّث المياه، مما يجبر العديد من سكان المنطقة على تركيب أجهزة لتنقية مياه الشرب. ولا تنحصر مشكلة المصرف بتلويثه مياه الشرب فقط، بل تتسرّب مياهه إلى أسفل المنازل مع ما يرافقها من رطوبة. وزاد الأمر سوءًا تصريف "مجزر الممتاز" مخلّفاته في مياه مصرف "البلبيسي" المكشوفة.
الفرق بين المجازر ونقاط الذبيح، كما حددها دليل الاشتراطات البيئية لمجازر الماشية ونقاط الذبيح الصادر عن وزارة البيئة.
تخضع المجازر ونقاط الذبيح الحكومية والخاصة لقرار وزارة الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية رقم 498 لسنة 2016 المنشور في الجريدة الرسمية بتاريخ 24 أغسطس/آب سنة 2016، وتشرف عليها الإدارة العامة للمجازر التابعة للهيئة العامة للخدمات البيطرية التابعة لوزارة الزراعة.
تمتلك مصر 486 مجزر ونقطة ذبيح حكومية، ذُبح فيها مليون و958 ألف رأس من الحيوانات، وفقًا للنشرة السنوية لإحصاء الثروة الحيوانية لعام 2021 الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
لا يقتصر النزوح على الحروب والنزاعات، بل أن النفايات والتلوث أيضًا تدفع الناس إلى التخلي عن أماكن سكنهم الأصلية، بهدف الحصول على بيئة نظيفة خالية من الأمراض تناسب عائلتهم، وهذا ما بات يشغل بال أحمد الزقزوق بعد تشخيص زوجته بالربو المزمن.
ترك الحي والمنطقة ليست خطوة سهلة، لكن على "زقزوق" وأولاده أن يختاروا، إما التضحية بالصحبة والجيرة والاستقرار، أو بصحتهم وبصحة أمهم التي وقعت ضحية للتلوث وتفاقَم وضعها الصحي إثر إصابتها بتضخم في عضلة القلب بعد أن بدأت علاج الربو المزمن، وتناول العديد من الأدوية بما فيها الكورتيزون.
كيف يتخلص الجزارون من مخلفات الذبائح؟
بهدف معرفة كيف يتخلّص الجزارون من مخلّفات الذبائح داخل المجازر، تواصلنا مع مجموعات للجزارين عبر منصة "فيسبوك" للسؤال عن الطريقة المعتمدة لإدارة المخلفات، فكانت الإجابة واحدة وهي عبر "استخدام خرطوم مياه لصرف المخلفات السائلة عبر ممرات تمتد على طول صالة الذبح".
أما المخلّفات الصلبة التي تكون عادة عبارة عن محتويات الكروش والأمعاء، والتي غالبًا ما تحتوي على بقايا طعام، فيجري تصريفها أيضًا داخل تلك الممرات، وهناك مجازر أخرى تفرّغها في مكان مستقل لنقلها إلى مكان آخر، والتخلص منها بالاستعانة بخدمات شركة تنظيف يتعاقد معها المجزر. أما "السّقَطُ" وهو عبارة عن الرؤوس والجلود والأقدام ونحوها، فهناك تجار متخصصون بجمعها وبيعها، إما لمدابغ الجلود أو لبائعي "فواكه اللحوم" التي يشتريها بعض الفقراء كبديل للّحوم.
ماذا عن اللوائح والقوانين؟
حددت القوانين المصرية طرق ووسائل التخلص من المخلفات، كما وضعت عددًا من المحظورات:
وحدد دليل الاشتراطات البيئية لمجازر الماشية ونقاط الذبح الصادر عن وزارة البيئة طرقا لإدارة المخلفات الصلبة
فوضى عارمة!
لتأكيد صحة معلومات الجزارين، بحثنا في الصور والفيديوهات عبر الإنترنت، والتي كشفت عن فوضى عارمة، ففي فيديو من مجزر المنيب بالجيزة، نلاحظ الأرض ملطخة باللون الأخضر، وهو اللون المميز لمحتويات الكرش، والمخلفات الصلبة ملقاة على الأرض بلا رقابة، الأمر الذي لا يختلف كثيرًا عن مجزر أوسيم بالجيزة. كما تظهر بالفيديو مخلفات الكرش متروكة على الأرض وداخل ممرات تصريف المخلفات السائلة، بينما يظهر طبيبٌ مختصٌ بالمجزر يطلب من الصحفية عدم التصوير.
أما مجزر أبو قير بالإسكندرية، فالصور أبلغُ تعبيرًا، حيث الدماء والمخلفات متناثرة على الأرض أيضًا، كما ظهرَ لنا أن حالة المبنى متهالكة، وكذلك حال مبنى مجزرطره بالقاهرة، الذي لا يختلف كثيرًا عن سابقه.
وما الذي كشفت عنه زياراتنا الميدانية؟
إزاء تلك الصور والفيديوهات، لم يكن أمامنا إلا إجراء زيارات ميدانية لثلاث مجازر حكومية مختلفة في السعة والتجهيزات، والتي وثّقنا فيها مخالفات في اشتراطات البناء، إضافة لمخالفات في طرق معالجة المخلفات داخل تلك المجازر.
باستثناء أيام الأعياد، تعمل المجازر بين السادسة أو السابعة صباحًا والعاشرة أو الحادية عشرة. لكن ذروة العمل تكون بين السابعة والتاسعة صباحًا، إذ تكثر الذبائح وتكثر معها الفوضى، وبعد التاسعة يتزايد رش المياه لتنظيف الأرضيات والاستعداد لإغلاق صالة الذبح.
بدأت زيارتنا بمجزر كرداسة في محافظة الجيزة، وهناك اصطدمنا بالمزيد من المخالفات. كانت الدماء تغطي أرضية صالة الذبح، وأحشاء الذبائح بعضها ملقاة على الأرض وبعضها مُفرّغة داخل ممرات تصريف المياه، التي يُفترض تفريغ المخلفات السائلة بها. كما كان المجزر كله عبارة عن صالة ذبح واحدة، ولا يوجد فيه صالة تنظيف مستقلة للتخلص من المخلفات الصلبة.
وفي جولة أخرى على مجزر الوراق بمحافظة الجيزة، الذي يُعد أكبر نسبيًا من مجزر كرداسة، وثّقنا المخالفات عبر التصوير السري إذ لم نتمكن من الإفصاح عن هويتنا الصحفية، وفيه تبين أيضًا أن القائمين على المجزر يصرفون المخلفات الصلبة داخل الممرات المائية، ويلقون الجلود والأحشاء على الأرض، ناهيك عن الروائح الكريهة الصادرة في المكان.
في محطتنا الأخيرة، توجهنا إلى أكبر المجازر المصرية، مجزر البساتين على طريق الأوتوستراد بالقاهرة، الذي تُقدر طاقته الاستيعابية بـ 5000 رأس يوميًا. لدى دخولنا، حذّرنا رجال الأمن بالمجزر من التصوير، لكننا اعتمدنا أيضًا في هذا المجزر على التصوير السري لتوثيق المخالفات. وعلى الرغم من مطابقة بناء عنابر المجزر لاشتراطات وجود صالات تنظيف ونقاط تجميع المخلفات الصلبة معزولة عن صالة الذبح، وملاحظتنا وجود سيارات لنقل المخلفات الصلبة خارج المجزر، إلا أننا رصدنا تصريف بعض المخلفات الصلبة داخل ممرات صرف المخلفات السائلة.
وبينما يتصدى بعض الأطباء العاملون في العنابر لتلك المخالفات، يؤثر آخرون الصمت والسلامة تفاديًا للمشاكل والاصطدام مع بعض الجزارين. تحدثنا خلال الزيارة إلى أحد الأطباء البيطريين المشرفين على أحد صالات ذبح الماشية، الذي أكّد لنا أن قواعد التصريف تستوجب صرف المخلفات الصلبة بالمكان المخصص له (المجاور لصالة الذبح)، ولكن بعض الجزارين يرمون المخلفات الصلبة داخل ممرات المخلفات السائلة.
في مقابل المجازر التي تصرّف المياه الملوثة على الترعات والأراضي الزراعية من دون معالجة، لاحظنا عبر المصادر المفتوحة بعض المجازر التي تعالج المياه قبل صرفها، مثل مجزر الشرقاوي الخاص بشبرا الخيمة في القاهرة الكبرى، وبعد أن أوقف محافظ القليوبية عمله عام 2015 لتصريفه المياه الملوثة إلى المجرى المائي، عاد المجزر حاليًا إلى التصريف بعد انشائه محطة معالجة مستقلة. كما يمتلك مجزر البساتين، أكبر مجزر حكومي في مصر، وحدة معالجة صرف منفصلة أُنشأت في عام 2021.
قبل أن ينتقل إلى مؤسسة الزكاة عام 1979، كان زقزوق يسكن في منطقة جسر السويس بالقاهرة، وعلى الرغم من معارضة أهله لانتقاله، إلا أن المنطقة كانت برأيه تستحق ترك منزل عائلته، والانتقال إلى مكان جديد يبني فيه حياته الزوجية، "لقد كانت منطقة مؤسسة الزكاة مليئة بالأشجار والمزارع، وحينها كان المصرف، مصرفًا زراعيًا نظيفًا"، يقول زقزوق.
يستطرد زقزوق: "بعد بناء الطريق الدائري ودخول العمران تغير كل شيء. أزال السكان الأراضي الزراعية وبنوا عليها المساكن والمباني، في مقابل ذلك وجّهت محطة الصرف الصحي المياه الآسنة والملوثة إلى المصرف".
ومع إنشاء "مجزر الممتاز" في المنطقة منذ حوالي 15عاما زادت نسبة التلوث، بسبب إلقاء المجزر المخلفات بما تحتويه من دمٍ وروث في المصرف.
مياه صرف المجازر.. كارثة بيئية ترصدها الأقمار الصناعية
إن الكارثة البيئية لا تتعلق بالمخالفات داخل المجازر فقط، بل أيضًا في تصريف مياه المجازر الملوثة على قنوات الري الزراعي، وحتى شبكات الصرف الصحي. ولتبيان حجم الكارثة رصدنا عبر صور الأقمار الصناعية تلوث المجرى المائي المقابل لمجزر"أولاد بكري" بقرية كوم أشفين بمحافظة القليوبية، حيث غطت الدماء المجرى المائي للترعة، بل وتجاوزتها بطول الجهة المقابلة من الترعة على الرغم من أن المجزر يقع في نهاية الجهة الأولى.
صور بالأقمار الصناعية لمجزر الممتاز بالمرج تظهر الدماء وهي تغطي الترعة المائية، بتاريخ 06 - 01 - 2024
صور بالأقمار الصناعية لمجزر الممتاز بالمرج تظهر الدماء وهي تغطي الترعة المائية، بتاريخ 11 - 08 - 2023
صور بالأقمار الصناعية لمجزر الممتاز بالمرج، تظهر مخلفات صلبة ملقاة على الأرض، بتاريخ 06 - 01 - 2024.
صورة جوية من مجزر أولاد بكري بقرية كوم أشفين، بتاريخ 02-11-2022
يتعرض الرشاح (المصرف البلبيسي) لتلوث شديد بالمخلفات الناتجة عن تصريف مجزر الممتاز على الرشاح مباشرة دون معالجة، ويمتد هذا التلوث (إلى جانب ملوثات أخرى بالرشاح) على طول 9 كيلومترات، مما يؤثر سلبًا على مساحة شاسعة تصل إلى 44 كيلومترًا مربعًا. وللتأكيد على خطورة الوضع، قمنا بإنشاء خريطة بيانات تُوضح بالتفصيل المساحة المتضررة من التلوث لنسلط الضوء على حجم المشكلة وتُساعد في فهم مدى تأثيرها على البيئة وصحة الإنسان.
حجم المنطقة المتأثرة بالرشاح البلبيسي المتلوث، بإجمالي مساحة 44 كم مربع
ولمطابقة الصورة على أرض الواقع، زرنا مجزر الممتاز، حيث رأينا كيف تصرّف المياه على الرشاح، وكيف تلوّنت بلون دماء الذبائح. كما لاحظنا انتشارًا للقمامة ووجود مكب للمخلّفات الصلبة في محيط منطقة المجزر وداخل المنطقة السكنية.
وفي جولة على المنازل تبيّن أن بعضها يعاني من الرطوبة الناتجة عن المصرف. وبينما يفترض أن تساعد محطة معالجة المياه السكان في تكرير ومعالجة مياه الرشاح، ترمي بمخلّفاتها داخل الرشاح ومقابل المجزر!
كما رصدنا في مجزر "كرداسة" تجميعًا للمياه في خزانٍ مكشوفٍ استعدادًا لكسحها، ما يسبب ضررًا كبيرًا للبيئة وخصوصا أن المجزر يقع بجانب المنطقة السكنية.
ملوثات مجازر اللحوم.. خطر مخفي
تستقبل المجازر في مصر لا سيما في مواسم الأعياد عشرات آلاف الأضاحي، وتدعو وزارة الزراعة المواطنين إلى الذبح في المجازر، كما تقدم خدمات الذبح للمواطنين بالمجان تحت إشراف بيطري متكامل للحد من ظاهرة الذبح في الشوارع والحفاظ على البيئة. إلا أن ضعف وغياب الرقابة على تلك المذابح التي باتت تشكل خطرًا بيئيًا غير مرئي، يعرّض البيئة بكل مكوناتها لخطر حقيقي.
وفي هذا السياق، قابلنا الدكتورة نغم رفيق أستاذ الصحة البيئية في كلية الطب البيطري جامعة كفر الشيخ، التي وصفت المجازر بالـ "قنبلة بيئية موقوتة"، شارحةً أنَّ: "مخلّفات المجازر سواء كانت صلبة أم سائلة أو سواء كانت الغازات التي تطلقها الماشية، تؤدي إلى إطلاق ملوثات بيولوجية ناتجة عن بكتيريا وفطريات الكرش والدهون والشحوم والمواد العالقة، وملوثات كيميائية تحتوي على كبريتيد الهيدروجين ذو الرائحة الكريهة، ناهيك عن استهلاك المجازر كمية ضخمة من المياه".
بالاضافة إلى الملوثات البيولوجية والكيميائية، تحمل المياه الخارجة من المجازر كميات كبيرة من المواد العضوية مما يزيد من نسبة التلوث، تضيف الدكتورة نغم: "الدم تحديدًا غني بالنيتروجين والفوسفات، وبالتالي خروجه لمصادر المياه يسبب عدة مشكلات أهمها زيادة نمو الطحالب بالمياه مما يؤدي لاستهلاك الأوكسجين وإلحاق ضرر بالأحياء المائية يؤدي غالبًا لنفوق معظمها، إضافة لتلون المياه باللون الأحمر نتيجة أكسدة الدم وانتشار الروائح الكريهة".
ولفتت إلى أن "الملوثات العضوية الناتجة عن دم بقرة واحدة تعادل الملوثات العضوية لـ 50 شخصًا". جانب آخر من هذا الضرر يتمثل في "البكتيريا والأحياء الدقيقة الموجودة في الحيوان التي تساعده على الهضم، والتي تنتقل بمجرد ذبح الحيوان وبالتالي قد تسبب المياه الأمراض مثل السالمونيلا".
مياه بدون معالجة في شبكات الصرف
قرر "زقزوق" البقاء في المنطقة، وحاول عدة مرات مع الأهالي استصدار قرار بردم المصرف ، والبدء في تشغيل محطة الصرف الصحي الجديدة، التي أنجز إنشاؤها خصوصًا أن محطة الصرف الصحي القديمة التي يفترض بها معالجة المياه، تصرّف هي الأخرى مياهها على الرشاح.
يحكي إبراهيم شرف الدين لنا: "قدم الأهالي المتضررون استغاثات إلى نواب البرلمان في المنطقة، سمعوا الكثير من الوعود بردم الرشاح وتشغيل محطة المياه الجديدة دون الوفاء بها، كان آخر وعد تأملنا أن ينقذنا في شهر مايو/أيار 2024، حين وعدنا نائب البرلمان عن المنطقة، أنهم توصلوا إلى حل، وأنه خلال أيام سيُردم الرشاح، إلا أن الرشاح لم يردم ولم يقدّم لهم أي حل حتّى الآن"
تصرف معظم المجازر التي وردت في التحقيق مياهها على شبكات الصرف الصحي دون معالجة، أي أنها تخضع للمواصفات المحددة بالقرار رقم 44 لسنة 2000 الذي يعّين حد أقصى من الملوثات التي يمكن السماح بتواجدها في المياه للقبول بتصريفها
لمعرفة مدى مطابقة تلك المياه للقرار رقم 44 والذي ينص على نسبة معينة كحد أقصى من الملوثات بالمياه المسموح صرفها على الشبكات (600 مجم/ لتر من الاحتياج الأكسجيني الحيوي BOD، و1100 مجم/ لتر من الاحتياج الأكسجيني الكيميائي COD، و100 مجم/ لتر من النيتروجين، و800 مجم/ لتر من المواد الصلبة العالقة الكلية TSS) سحبنا عينة من مياه المخرج النهائي لصالة الذبح في مجزر الوراق، المتصل بالصرف الصحي مباشرة دون معالجة، وأخضعناها للتحليل في معمل لفحص تلوث المياه بالمركز القومي للبحوث والذي يعد جهة بحثية رسمية.
كما هو متوقع، أشارت النتائج إلى وجود تلوث بمستويات عالية، إذ أن العينة لم تكن غير مطابقة للمواصفات فحسب، بل بلغت الملوثات فيها أضعاف النسب المنصوص عليها داخل القرار، على سبيل المثال بلغت نسبة المواد العضوية بنوعيها (الاحتياج الأكسجيني الحيوي BOD والاحتياج الأكسجيني الكيميائي COD) أربعة أضعاف النسبة المسموح بها تقريبًا وبلغت المواد الصلبة العالقة ضعف الحد المسموح به.
ماذا يمكننا أن نفهم من تلك النسب؟
تحتوي عينة المياه التي فحصناها على عدة عناصر كيميائية مضرة بالبيئة، وهي المواد العضوية التي تتألف من الاحتياج الأكسجيني الحيوي BOD والاحتياج الأكسجيني الكيميائي COD. كما تحتوي على النيتروجين والفوسفور الناتجين عن الدماء. إضافة إلى المواد الصلبة العالقة TSS، والدهون والشحوم والبروتينات.
بحسب وكالة حماية البيئة والتشريعات الأوروبية المختلفة، تعتبر مياه صرف المجازر الملوث الأكبر للبيئة. وهذا ما تؤكده أيضًا دراسة منشورة في المجلة المصرية للكيمياء في فبراير/شباط 2021، بعنوان: "المعالجة البيولوجية لمياه الصرف الصحي الناتجة عن المسالخ عن طريق مفاعل الأغشية الحيوية ذو التدفق الأفقي"- تشير الدراسة إلى تسبب المواد العضوية بإزالة الأكسجين من الأنهار، وتلوث المياه الجوفية.
وبحسب مقالة منشورة بموقع مركز أبحاث يدعى Environment America، فإن النيتروجين والفوسفور اللذين تنتجهما مياه المجازر يؤديان إلى تفشي الطحالب السامة وخلق مناطق ميتة في المياه.
أشار أحد الباحثين في المركز القومي للبحوث، رفض ذكر اسمه، إلى أن النسب الواردة بتحليل العيِّنة التي سحبناها من المجزر تعني أن المتر المكعب الواحد يعادل 14 متر مكعب من مياه الصرف الصحي البشري، أي أن 100 متر مكعب من إفرازات المجزر تساوي تقريبًا سعة محطة معالجة مياه الصرف الصحي لقرية صغيرة.
ووفقًا للباحث، فإن المياه التي أخذنا منها عينة التحليل، قد تسبب انسداد لأنابيب الصرف بسبب وجود المواد الصلبة العالقة، كما أنها تسبب ضغوط وأحمال عضوية على شبكة الصرف الصحي مما يقلل من كفاءة محطات المعالجة تدريجيًا، وهذا ما أكدته لنا الدكتورة نغم رفيق خلال مقابلتنا معها "يجب أن تمر المياه الخارجة من المجازر بمعالجة ثانوية قبل التصريف على الشبكات حتى لا تسبب تحميل زائد عليها".
مشكلة أخرى تتعلق بمياه المجازر، وهي مدى تعرّضها للهواء الطلق في حال تصريفها على مجاري مائية مكشوفة. وفي هذه الحالة تتعرض المياه لمعالجة هوائية ولا هوائية: في حالة المعالجة اللاهوائية تؤدي المياه لزيادة انبعاثات الميثان وارتفاع نسبة غاز كبريتيد الهيدروجين وهو غازٌ سام، مما يتسبب باختناق الأسماك، ، أما المعالجة الهوائية فتؤدي لزيادة نسبة ثاني أكسيد الكربون بالجو، وفقا للباحث.
وبشكلٍ عام يتوقف حجم الضرر على كمية المياه الناتجة عن المجزر، وعلى مدى اختلاطها بمصادر المياه الأخرى من باقي المصادر الصناعية، ويعتمد أيضًا حجم الضرر على نوعية المياه التي قد تخفف من حدة تلك المواصفات أو قد تزيدها، حيث أن شبكة الصرف الصحي تستقبل مياه من مختلف المصادر في المنطقة ويجري معالجتها مجتمعة.
وإذا جرى تصريف مياه المجازر إلى المجاري المائية العذبة، فقد تتسبب في تدمير النظام البيئي المائي بما فيه من أسماك وطحالب وكائنات أخرى، والسبب في ذلك، كما شرحنا سابقًا، طبيعة المياه الملوثة الخارجة من المجازر، التي تخفّض من نسب الأكسجين الموجودة في المياه العذبة، وخصوصًا أن المياه التي يختلط فيها ماء المجزر لا يمكن معالجتها لتصبح صالحة للشرب؛ كون محطات معالجة مياه الشرب لا تنقّيها من أية ملوثات عضوية.
وهناك دراسات تجاوزت فيها نسب تلك الملوثات النسب الظاهرة في العينة التي أخضعناها للتحليل، ففي دراسة بعنوان "نموذج تجريبي لمعالجة مياه الصرف الصحي للمسالخ باستخدام الزيوليت أو مسحوق أوراق البسيديوم كمخثر طبيعي، متبوعًا بالترشيح بقش الأرز، بالمقارنة مع مخثر غير عضوي"، منشورة بتاريخ أبريل/نيسان 2022، في مجلة علم الإنزيمات التطبيقية والتكنولوجيا الحيوية البيئية"، استخدم الباحثون عينة من مياه الصرف الصحي من مصرف أحد المجازر في محافظة كفر الشيخ في دلتا مصر، وقد بلغت أعلى نسبة BOD قيمة 8500 مجم للتر، والـ COD 16,000 مجم للتر، أما المواد العالقة TSS فبلغت 10,000 مجم للتر.
أما في دراسة "المعالجة البيولوجية لمياه الصرف الصحي الناتجة عن المسالخ عن طريق مفاعل الأغشية الحيوية ذات التدفق الأفقي"، والتي اُشيرَ إليها سابقًا، بلغت الـ COD نحو 9,855 مجم للتر، أما الـ BOD وصلت إلى 5,037 مجم للتر والـ TSS بلغت 3,440 مجم للتر.
منذ حوالي السنتين أوقفت الجهات المعنية عمل "مجزر الممتاز" ومنعته من صرف مخلفاته على الرشاح. حينها استُبدل التصريف على المجرى المائي بتجميع المياه في غرفة تخزين استعدادًا للتخلص منها عبر الاستعانة بناقلات للمياه إلى مكان آخر، إلا أنه سرعان ما عادوا لتصريف المخلفات السائلة في الرشاح وخلال العام الحالي وبعد ضغط الأهالي واستغاثاتهم المتكررة عبر نواب البرلمان، تعهد صاحب المجزر بوقف التصريف العشوائي بعد انقضاء موسم عيد الأضحى، لكن لم يتحقق أيٌّ من الوعود.
كنز ثمين.. وحلول أكثر استدامة
أُجريَت العديد من الدراسات للبحث عن طرق أكثر استدامة لمعالجة مياه صرف المجازر، وخصوصًا أن صناعة اللحوم تستهلك نسبةً كبيرةً تصل إلى 25% من المياه العذبة المستهلكة في صناعة الأطعمة والمشروبات.
ومن الحلول المطروحة التي تسمح إعادة تدوير مياه صرف المجازر والاستفادة من المكونات العضوية فيها يمكن ذكر المعالجة الكهروكيميائية، كما توجد طرق أخرى مستدامة مثل المعالجات الفيزيائية المختلفة كالتخثير أو تعويم الهواء المذاب، إلا أنّ طرق المعالجة هذه مكلفة وتحتاج استثمارات ضخمة.
وبحسب دراسة علمية ذات صلة بالموضوع، توجد إمكانية للجمع بين عملية تعويم الهواء المذاب (DAF) ثم المفاعل الحيوي الغشائي (MBR) وأخيرًا التناضح العكسي (RO)، بالإضافة لإمكانية استخدام المواد العضوية في المياه لإنتاج الغاز الحيوي.
كذلك، يمكن التطرّق إلى أساليب أخرى لتقليل نسب الملوثات من المياه، أوفر وأكثر كفاءة في إزالة الملوثات، مثل مفاعل الأغشية الحيوية ذو التدفق الأفقي (HFBR)، الذي توفّر تقنية جديدة وفعالة وغير مكلفة لإزالة الكربون والنيتروجين من مياه الصرف الصحي.
أما بالنسبة للمخلفات الصلبة، فإنّ الطرق التقليدية مثل الحرق أو الدفن الآمن، ليست أفضل الخيارات، ذلك لأنّ الحرق يزيد الانبعاثات في الجو، وقد يتسبّب الدفن في تسرب بعض الملوثات إلى المياه الجوفية، كما أكدت لنا الدكتورة نغم رفيق.
وعليه، يمكن البحث عن طرقٍ أخرى أكثر استدامة مثل"المعالجة اللاهوائية"، و"التحلل القلوي"، و"التحلل الإنزيمي"، على الرغم من أنّها تتطلّب ميزانياتٍ ضخمة وبنية تحتية قوية وسياسات حكومية، قد تكون مكلفة في البداية إلا أنها ستؤتي ثمارها لاحقا.
ترى الدكتورة نغم رفيق أن مخلّفات المجازر تشكّل ثروة ضخمة إذا أحسن استغلالها، وترشّح إعادة تدوير تلك المخلفات سواء في صناعة الأسمدة أو دباغة الجلود أو صناعة الغراء، أو الجيلاتين الحيواني، أو مسحوق العظم أو صناعة الفحم الحيواني.
الجدير بالذكر أن الحكومة المصرية، ممثلة في وزارة التنمية المحلية، تقوم حاليًا بتنفيذالمشروع القومي لتطوير المجازر، بهدف تطوير ورفع كفاءة عدد من المجازر تشمل، 43 مجزرًا في المرحلة الأولى بتكلفة 1.7 مليار جنيه، وصولًا إلى هدف نهائي بتطوير 464 مجزرًا ونقطة ذبيح بنهاية المشروع.
أخبرنا أحمد زقزوق أن: "مجزر الممتاز" استقدم أنابيب صرف صحي لتصريف مياه المجزر إلى محطة معالجة المياه، التي انتهت أعمال إنشائها حديثًا، ولكن لم يتم تشغيلها بعد، كما أنه من غير الواضح بعد إذا كان المجزر سيعالج المياه الملوثة باستخدام محطة معالجة مستقلة قبل الصرف أم لا.
توفيت زوجة أحمد زقزوق عام 2019 متأثرة بالربو وتضخم القلب. أما إبراهيم شرف الدين مازال يعاني من التلوث، لكنه مضطر للبقاء لوجود مصدر رزقه في تلك المنطقة، ومازال حتى اليوم يحاول مع الأهالي تنفيذ قرار الردم.